فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال زيد: فأنزلها الله وحدها فألحقتها؛ والذي نفسي بيده لكأنِّي أنظر إلى ملحقها عند صَدْع في كَتِف.
وفي البخارِي عن مِقسم مولى عبد الله بن الحارث أنه سمع ابن عباس يقول: {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين} عن بدر والخارجون إلى بدر.
قال العلماء: أهل الضرر هم أهل الأعذار إذْ قد أضرّت بهم حتى منعتهم الجهاد.
وصح وثبت في الخبر أنه عليه السَّلام قال وقد قفل من بعض غزواته: «إن بالمدينة رجالًا ما قطعتم وادِيًا ولا سِرتم مسِيرًا إلاَّ كانوا معكم أُولئك قوم حبسهم العذر» فهذا يقتضي أن صاحب العذر يعطى أجر الغازي؛ فقيل: يحتمل أن يكون أجره مساويًا، وفي فضل الله متّسع، وثوابه فضل لا استحقاق؛ فيثيب على النية الصادقة ما لا يثبت على الفعل.
وقيل: يعطى أجره من غير تضعيف فيفضله الغازي بالتضعيف للمباشرة. والله أعلم.
قلت: والقول الأول أصح إن شاء الله للحديث الصحيح في ذلك «إن بالمدينة رجالًا» ولحديث أبي كبشة الأنماري قوله عليه السَّلام: «إنما الدنيا لأربعة نفر» الحديث وقد تقدم في سورة «آل عمران».
ومن هذا المعنى ما ورد في الخبر: «إذا مرِض العبد قال الله تعالى: اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ أو أقبضه إليّ». اهـ.

.قال الفخر:

قرئ {غَيْرُ أُوْلِى الضرر} بالحركات الثلاث في {غَيْرِ} فالرفع صفة لقوله: {القاعدون} والمعنى لا يستوي القاعدون المغايرون لأولي الضرر والمجاهدون، ونظيره قوله: {أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِى الإربة} [النور: 31] وذكرنا جواز أن يكون {غَيْرِ} صفة المعرفة في قوله: {غَيْرِ المغضوب} [الفاتحة: 7] قال الزجاج: ويجو أن يكون {غَيْرِ} رفعًا على جهة الاستثناء، والمعنى لا يستوي القاعدون والمجهدون إلا أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين، أي الذين أقعدهم عن الجهاد الضرر، والكلام في رفع المستثنى بعد النفي قد تقدم في قوله: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ} [النساء: 66]
وأما القراءة بالنصب ففيها وجهان.
الأول: أن يكون استثناء القاعدين، والمعنى لا يستوي القاعدون إلا أولي الضرر، وهو اختيار الأخفش.
الثاني: أن يكون نصبًا على الحال، والمعنى لا يستوي القاعدون في حال صحتهم، والمجاهدون، كما تقول: جاءني زيد غير مريض، أي جاءني زيد صحيحًا، وهذا قول الزجاج والفرّاء وكقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلّى الصيد} [المائدة: 1] وأما القراءة بالجر فعلى تقدير أن يجعل {غَيْرِ} صفة للمؤمنين، فهذا بيان الوجوه في هذه القراءات.
ثم هاهنا بحث آخر: وهو أن الأخفش قال: القراءة بالنصب على سبيل الاستثناء أولى لأن المقصود منه استثناء قوم لم يقدروا على الخروج.
روي في التفسير أنه لما ذكر الله تعالى فضيلة المجاهدين على القاعدين جاء قوم من أولي الضرر فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: حالتنا كما ترى، ونحن نشتهي الجهاد، فهل لنا من طريق؟ فنزل {غَيْرُ أُوْلِى الضرر} فاستثناهم الله تعالى من جملة القاعدين.
وقال آخرون: القراءة بالرفع أولى لأن الأصل في كلمة {غَيْرِ} أن تكون صفة، ثم أنها وإن كانت صفة فالمقصود والمطلوب من الاستثناء حاصل منها، لأنها في كلتا الحالتين أخرجت أولي الضرر من تلك المفضولية، وإذا كان هذا المقصود حاصلًا على كلا التقديرين وكان الأصل في كلمة {غَيْرِ} أن تكون صفة كانت القراءة بالرفع أولى. اهـ.

.قال الشنقيطي:

ذكر في هذه الآية الكريمة أنّه فضّل المجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وأجرًا عظيمًا، ولم يتعرض لتفضيل بعض المجاهدين على بعض، ولكنه بين ذلك في موضع آخر وهو قوله: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلًا وَعَدَ الله الحسنى} [الحديد: 10] وقوله في هذه الآية الكريمة: {غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ} [النساء: 95] يفهم من مفهوم مخالفته أن من خلفه العذر إذا كانت نيته صالحة يحصل ثواب المجاهد.
وهذا المفهوم صرح به النَّبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس الثابت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه، قالوا: وهم بالمدينة يا رسول الله؟ قال: نعم حبسهم العذر» وفي هذا المعنى قال الشاعر:
يا ظاعنين إلى البيت العتيق لقد ** سرتم جسومًا، وسرنا نحن أرواحا

إنا أقمنا على عذر وعن قدر ** ومن أقام على عذر فقد راحا

تنبيه:
يؤخذ من قوله في هذه الآية الكريمة: {وَكُلًا وَعَدَ الله الحسنى} أن الجهاد فرض كفاية لا فرض عين. لأن القاعدين لو كانوا تاركين فرضًا لما ناسب ذلك وعده لهم الصادق بالحسنى. وهي الجنة والثواب الجزيل. اهـ.

.قال الفخر:

الضرر النقصان سواء كان بالعمى أو العرج أو المرض، أو كان بسبب عدم الأهبة. اهـ.

.قال القرطبي:

وقد تمسك بعض العلماء بهذه الآية بأن أهل الديوان أعظم أجرًا من أهل التطوع؛ لأن أهل الديوان لما كانوا متملكين بالعطاء، ويصرَّفون في الشدائد، وتروّعهم البعوث والأوامر، كانوا أعظم من المتطوع؛ لسكون جأشه ونعمة باله في الصوائف الكبار ونحوها.
قال ابن محيريز: أصحاب العطاء أفضل من المتطوعة لما يروّعون.
قال مكحول: روعات البعوث تنفِي روعات القيامة.
وتعلق بها أيضًا من قال: إن الغِنى أفضل من الفقر؛ لذكر الله تعالى المال الذي يوصل به إلى صالح الأعمال.
وقد اختلف الناس في هذ المسألة مع اتفاقهم أن ما أحوج من الفقر مكروه، وما أبطر من الغنى مذموم؛ فذهب قوم إلى تفضيل الغنى، لأن الغني مقتدر والفقير عاجز، والقدرة أفضل من العجز.
قال الماوردِيّ: وهذا مذهب من غلب عليه حب النباهة.
وذهب آخرون إلى تفضيل الفقر، لأن الفقير تارك والغني ملابس، وترك الدنيا أفضل من ملابستها.
قال الماوردِيّ: وهذا مذهب من غلب عليه حب السلامة.
وذهب آخرون إلى تفضيل التوسط بين الأمرين بأن يخرج عن حدّ الفقر إلى أدنى مراتب الغنى ليصل إلى فضيلة الأمرين، وليسلم من مذمة الحالين.
قال الماورديّ: وهذا مذهب من يرى تفضيل الاعتدال وأن: «خير الأُمور أوسطها» ولقد أحسن الشاعر الحكيم حيث قال:
ألا عائذا باللَّه من عدم الغِنى ** ومن رغبةٍ يوما إلى غير مرغب

. اهـ. بتصرف يسير.

.قال الفخر:

حاصل الآية: لا يستوي القاعدون المؤمنون الأصحاء والمجاهدون في سبيل الله، واختلفوا في أن قوله: {غَيْرُ أُوْلِى الضرر} هل يدل على أن المؤمنين القاعدين الأضراء يساوون المجاهدين أم لا؟ قال بعضهم: أنه لا يدل لأنا إن حملنا لفظ {غَيْرِ} على الصفة وقلنا التخصيص بالصفة لا يدل على نفي الحكم عما عداه لم يلزم ذلك، وإن حملناه على الاستثناء وقلنا الاستثناء من النفي ليس بإثبات لم يلزم أيضًا ذلك، أما إذا حملناه على الاستثناء وقلنا الاستثناء من النفي إثبات لزم القول بالمساواة.
واعلم أن هذه المساواة في حق الأضراء عند من يقول بها مشروطة بشرط آخر ذكره الله تعالى في سورة التوبة وهو قوله: {لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى} إلى قوله: {إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91].
واعلم أن القول بهذه المساواة غير مستبعد، ويدل عليه النقل والعقل، أما النقل فقوله عليه الصلاة والسلام عند انصرافه من بعض غزواته «لقد خلفتم بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم أولئك أقوام حبسهم العذر» وقال عليه الصلاة والسلام: «إذا مرض العبد قال الله عز وجلّ اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ» وذكر بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين * إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 5، 6] أن من صار هرما كتب الله تعالى له أجر ما كان يعمله قبل هرمه غير منقوص من ذلك شيئًا.
وذكروا في تفسير قوله عليه الصلاة والسلام: «نية المؤمن خير من عمله» أن ما ينويه المؤمن من دوامه على الإيمان والأعمال الصالحة لو بقي أبدًا خير له من عمله الذي أدركه في مدة حياته، وأما المعقول فهو أن المقصود من جميع الطاعات والعبادات استنارة القلب بنور معرفة الله تعالى، فإن حصل الاستواء فيه للمجاهد والقاعد فقد حصل الاستواء في الثواب، وإن كان القاعد أكثر حظًا من هذا الاستغراق كان هو أكثر ثوابًا. اهـ.

.قال أبو حيان:

{فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة} الظاهر: أن المفضل عليهم هم القاعدون غير أولي الضرر، لأنهم هم الذين نفى التسوية بينهم، فذكر ما امتازوا به عليهم، وهو تفضيلهم عليهم بدرجة، فهذه الجملة بيان للجملة الأولى جواب سؤال مقدر، كان قائلًا قال: ما لهم لا يستوون؟ فقيل: فضل الله المجاهدين، والمفضل عليهم هنا درجة هم المفضل عليهم آخرًا درجات، وما بعدها وهم القاعدون غير أولي الضرر.
وتكرر التفضيلان باعتبار متعلقهما، فالتفضيل الأول بالدرجة هو ما يؤتى في الدنيا من الغنيمة، والتفضيل الثاني هو ما يخولهم في الآخرة، فنبه بإفراد الأول، وجمع الثاني على أنّ ثواب الدنيا في جنب ثواب الآخرة يسير.
وقيل: المجاهدون تتساوى رتبهم في الدنيا بالنسبة إلى أحوالهم، كتساوي القاتلين بالنسبة إلى أخذ سلب من قتلوه، وتساوي نصيب كل واحد من الفرسان ونصيب كل واحد من الرجال، وهم في الآخرة متفاوتون بحسب إيمانهم، فلهم درجات بحسب استحقاقهم، فمنهم من يكون له الغفران، ومنهم من يكون له الرحمة فقط.
فكان الرحمة أدنى المنازل، والمغفرة فوق الرحمة، ثم بعد الدرجات على الطبقات، وعلى هذا نبه بقوله: {هم درجات عند الله} ومنازل الآخرة تتفاوت.
وقيل: الدرجة المدح والتعظيم، والدرجات منازل الجنة.
وقيل: المفضل عليهم أولًا غير المفضل عليهم ثانيًا.
فالأول هم القاعدون بعذر، والثاني هم القاعدون بغير عذر، ولذلك اختلف المفضل به: ففي الأول درجة، وفي الثاني درجات، وإلى هذا ذهب ابن جريج، وهو من لا يستوي عنده أولوا الضرر والمجاهدون.
وقيل: اختلف الجهادان، فاختلف ما فضل به.
وذلك أن الجهاد جهادان: صغير، وكبير.
فالصغير مجاهدة الكفار، والكبير مجاهدة النفس.
وعلى ذلك دل قوله عليه السلام: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» وإنما كان مجاهدة النفس أعظم، لأنّ من جاهد نفسه فقد جاهد الدنيا، ومن غلب الدنيا هانت عليه مجاهدة العدا، فخصّ مجاهدة النفس بالدرجات تعظيمًا لها.
وقد تناقض الزمخشري في تفسير القاعدين فقال: فضل الله المجاهدين جملة موضحة لما نفي من استواء القاعدين والمجاهدين، كأنه قيل: ما لهم لا يستوون؟ فأجيب بذلك: والمعنى على القاعدين غير أولي الضرر، لكون الجملة بيانًا للجملة الأولى المتضمنة لهذا الوصف.